سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


قلت: {فِجَاجًا}: حال من {سُبل}، وأصله: وصف له، فلما تقدم أُعرب حالاً. وقيل {سُبُلاً}: بدل من {فجاجًا}. وفي إتيانه: إيذان أن تلك الفجاج نافذة؛ لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا. قاله المحشي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أوَ لَمْ يَر الذين كفروا} رؤية اعتبار {أنّ السماواتِ والأرضَ} أي: جماعة السماوات وجماعة الأرض {كانتا}، ولذلك لم يقل كُنَّ، {رَتْقًا} أي: ملتصقة بعضها ببعض. والرتق: الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: كانتا مرتوقتين، أي: ملتصقتين، {ففتقناهما}؛ فشققناهما، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه: كانتا شيئًا واحدًا متصلتين، ففصل الله بينهما، فرفع السماء إلى حيث هي، وأقرّ الأرض. وفي رواية عنه: أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدي: (كانت السماوات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها، فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض، كانت طبقة واحدة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين).
فإِن قيل: متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا: مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها، وهو مشاهد بالأبصار، وهم متمكنون من النظر والاعتبار، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا، فَتَقَهَا ورفعها، وهو الحق جلّ جلاله، وذكر الرتق زيادة إخبار، فكأنه قال: ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي: لَمّا كان القرآن معجزًا، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي، أو: لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين، وما بينهما، وتباينهما، جائزًا عقلاً، وجب تخصيص التلاصق من التباين، وليس ذلك إلا لله تعالى. اهـ.
وقيل: كانت السماوات صلبة لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالأمطار، والأرض بالنبات. ورُوي هذا عن ابن عباس أيضًا، وعليه أكثر المفسرين، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق، بهذا المعنى، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم، وعلى الثاني رؤية عين.
{وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍّ} أي: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} [النُّور: 45]، وذلك لأنه من أعظم مواده، أو لفرط احتياجه إليه، وحبه له، وعدم صبره عنه، وانتفاعه به، ويدخل في ذلك: النبات؛ مجازًا دون الملائكة، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل، كما في آية: {فَأَكَلَهُ الذئب} [يُوسُف: 17]، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل المراد به: المَنِيُّ. فأَلْ فيه، حينئذ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري: كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ، وهي من جملة الماء. اهـ. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. {أفلا يؤمنون} بالله وحده، وهو إنكار لعدم إيمانهم، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.
{وجعلنا في الأرض رواسِيَ} أي: جبالاً ثوابت، من رسا الشيءُ؛ إذا ثبت ورسخ، {أن تميد بهم} أي: كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم، أو لئلا تميد بهم- بحذف اللام-، ولا؛ لعدم الإلباس. {وجعلنا فيها} أي: في الأرض، وتكرير الجعل؛ لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه، أو في الرواسي؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق، {فِجاجًا}: جمع فج، وهو الطريق الواسع، نفذ أم لا، أي: جعلنا في الأرض مسالك واسعة، و{سُبُلاً} نافذة: فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل: أيّ فرق بين هذا وبين قوله: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نُوح: 20]؟ فالجواب: أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
وقوله تعالى: {لعلهم يهتدون} أي: إلى البلاد المقصودة بتلك السبل، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا} من السقوط، كقوله: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحَجّ: 65]، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم، أو من استراق السمع بالشهب، كما قال: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصَّافات: 7]. {وهم} أي: الكفار {عن آياتها} أي: عن الأدلة التي فيها، كالشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته، التي بعضها محسوس، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة، {مُعْرِضُون} لا يتدبرون فيها، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال، فيؤمنون.
{وهو الذي خلق الليلَ} لتسكنوا فيه، {والنهارَ} لتتصرفوا فيه، {والشمسَ} لتكون سراجَ النهار، {والقمرَ} ليكون سراج الليل، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله: {كلٌّ} أي: كلهم، والمراد: جنس الطوالع، {في فَلكٍ يَسْبَحُون} أي: يسيرون سير العائم في الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه: الفلك السماء، وقيل: موج مكفوف تحت السماء، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك: جسم مستدير، وأنهن تسعة، وهل هي السماوات السبع، فيكون الكرسي ثامنًا، والعرش تاسعًا، أو غيرهن، فتكون تحت السماوات أو فوقها؟ قولان لهم. والمراد هنا: الجنس، كقولك: كَسَاهُمُ الأميرُ حلةٌ، أي: حُلة حُلةً، وجعل الضمير واو العقلاء؛ لأن السباحة حالُهم.
قال في المستخرج من كتاب الغزنوني: {كلٌّ} أي: كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة، وإن لم تُذْكرون؛ لأنه جمعَ قوله: {يَسْبَحُون} والمعنى: يجرون كالسابح أو يدورون، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك، ولها تسعة أفلاك، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زُحل، والثامن: فلك البروج، والتاسع: الفلك الأعظم. اهـ. وقال في سورة يس: خص الشمس والقمر هنا، وفي سورة الأنبياء؛ لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سماوات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة، ميتة بالجهل، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى: أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية، انفتقت بالعلوم والأسرار، فهذا شاهد بوجود أهل التربية، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة. وجعلنا من ماء الغيب- وهي الخمرة الأزلية- كلَّ شيء حي، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول؛ لئلا تميل إلى الهوى فتموت، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة، وهي طرق كثيرة، والمقصد واحد، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء، التي هي معرفة الحق بالعيان، وهو قوله تعالى: {لعلهم يهتدون} إلى الوصول إلى حضرتنا.
وجعلنا السماء، أي: سماء القلوب الصافية، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين، قال بعضهم: إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ. وهم عن آياتها، أي: عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون؛ لانهماكهم في الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان، كلٌّ في موضعه، لا يتعدى أحد على صاحبه، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وبالله التوفيق.
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة، وانقطعوا، قالوا: ننتظر به ريب المنون، فنستريح منه.


يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {وما جعلنا لبشرٍ من قبلكَ الخُلدَ} أي: البقاء الدائم؛ لكونه مخالفًا للحكمة التكوينية والتشريعية، {أَفإِن مِّتَّ} بمقتضى حكمتنا {فهُم الخالدون} بعدك؟ نزلت حين قالوا: نتربص به رب المنون، فنفى عنه الشماتة بموته، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل، أي: قضى الله ألا يخلد في الدنيا بشرًا، فإن مِّتَّ- يا محمد- أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا؛ {كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموت} أي: ذائقة مرارة مفارقتها جسدها، فتستوي أنت وهم فيها، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.
{ونبلُوكم}، الخطاب: إما للناس كافة بطريق التلوين، أو للكفرة بطريق الالتفات، وسمي ابتلاء، وإن كان عالمًا بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم؛ لأنه في صورة الاختبار، أي: نختبركم {بالشر والخير}، أي: بالفقر والغنى، أو بالضر والنفع، أو بالعطاء والمنع، أو بالذل والعز، أو بالبلاء والعافية، {فتنةً}؛ اختبارًا، هل تصبرون وتشكرون، أو تجزعون وتكفرون. و{فتنة}: مصدر مؤكد {لنبلوكم}، من غير لفظه. {وإِلينا تُرجعون} لا إلى غيرنا، فنجازيكم على حسب ما يُؤخذ منكم؛ من الصبر والشكر، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا: الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه، وتُسلَب كرائمه، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار التعب إلى دار الهناء، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار، وصرف وجهته إلى دار القرار، فاشتغل بالتزود للرحيل، وبالتأهب للمسير، فلا مطمع للخلود في هذه الدار، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار، وتأمل قول الشاعر:
صبرًا في مجال الموت صبرًا *** فما نيل الخلود بمستطاع
وقوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه، إن صَحِبَتْه اليقظة، فيرجع إلى الله تعالى في كل حال تنزل به، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا، وإن أصابته سراء رجع إليه بالحمد والشكر، فيكون دائمًا في السير والترقي، وهذا معنى قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإِلينا تُرجعون} أي: بهما. فالرجوع إلى الله في السراء والضراء من أركان الطريق، والرجوع إلى الله في الضراء بالصبر والرضا، وفي السراء بالحمد والشكر، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي فَصَبَرَ، وأُعطِي فَشَكَرَ، وظُلِم فغفر أو ظلَم فاسْتَغْفَرْ»، ثم سكت- عليه الصلاة والسلام- فقالوا: ما له يا رسول الله؟ قال: {أولئك لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ}
وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمرِ الْمُؤْمِن، إِنَّ أمرهُ كُلَّهُ خيرٌ، ولَيْسَ ذلِكَ لأحَد إلاَّ للمُؤْمنِ، إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَر، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكَانَ خَيرًا لَهُ».
والرجوع إلى الله في الضراء أصعب، والسير به أقوى؛ لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية، ولذلك قدَّمه الحق تعالى. وفي الحديث: «إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» وفي الخبر عن الله تعالى: «الفقر سجني، والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي» وبه يحصل على عمل القلوب؛ الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل، وغير ذلك من المقامات، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار. وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، بل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ *** قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات: هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات، منحنا الله من ذلك، الحظ الأوفر. آمين.


قلت: {أهذا الذي}: مقول لحال محذوفة، أي: قائلين: أهذا الذي، وحذف الحال، إذا كان قولاً، مطردٌ. {وهم بذكر الرحمن}: حال، و{بل تأتيهم}: عطف على {لا يكُفُّون} أي: لا يكفونها، بل تأتيهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا رآك الذين كفروا} أي: المشركون {إِن يتخذونك}؛ ما يتخذونك {إِلا هُزُوًا}؛ مهزوءًا بك؛ على معنى قصر معاملتهم معه- عليه الصلاة والسلام- على اتخاذهم إياه هزوًا، كأنه قيل: ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل- لعنه الله-، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف. قال القشيري: (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص، وما رقَّاه الله من المنزلة، لظلوا له خاضعين، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا فيه جسمه وصورته). فاستهزؤوا بما لم يُحيطوا بعلمه، حَال كونهم يقولون: {أهذا الذي يَذْكُرُ} أي: يعيب {آلهتكم}، فالذكر يكون بخير وبضده، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوًا فهو ذم. {وهم بذكر الرحمن} أي: بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، {هم كافرون}؛ لا يصدقون به أصلاً، فهم أحق بالهزء والسخرية منك؛ لأنك مُحق وهم مُبطلون. والمعنى أنهم يعيبون- عليه الصلاة والسلام- أن يذكر آلهتهم، التي لا تضر ولا تنفع، بالسوء، والحال: أنهم بذكر الرحمن، المنعم عليهم بأنواع النعم، التي هي من مقتضيات رحمانيته، كافرون، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال، أو: بما أنزل من القرآن؛ لأنه ذكر الرحمن، {هم كافرون}؛ جاحدون، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ {هُم} للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى: {خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَل}، العَجَل والعَجَلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان: الجنس، جُعل لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه خُلق من العَجَلة، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء: خُلق منه، تقول لمن يكثر منه الكرم: خُلق من الكرم. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث، حين استعجل العذاب بقوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا...} [الأنفَال: 32] الآية، كأنه قال: ليس ببدع منه أن يستعجل، فإنه مجبول على ذلك، وطبعُه، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. ورُوي: أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام، فكانت العجلة من سجيته، وسرت في أولاده. وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه، ليتكمل بعد النقص، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه؛ لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة.
قال القشيري: العَجَلةُ مذمومةٌ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ. والفرق بينهما: أن المسارعة: البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلة: استقباله قبل وقته، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق. اهـ.
وقال الورتجبي: خلقهم من العَجَلة، وزجرَهم عن التعجيل؛ إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. اهـ. قلت: ما زالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين، وبها عُرفوا، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين، وبها وصفوا.
وقيل: العَجَل الطين، بلغة حِمْير، ولا مناسبة له هنا.
قال تعالى، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين: {سأُوريكم آياتي}: نَقَماتي، كعذاب النار وغيره، {فلا تستعجلون} بالإتيان بها، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم؛ ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
{ويقولون متى هذا الوعد}: إتيان العذاب، أو القيامة، {إِن كنتم صادقين} في وعدكم بأنه يأتينا، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء، والإنكار، لا طلبًا لتعيين وقته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة. قال تعالى: {لو يعلمُ الذين كفروا}، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه، وفظاعة ما فيه من العذاب، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى: {حين لا يَكُفُّون عن وجوههم النارَ ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون}: مفعول {يعلم}، وهو عبارة عن الوقت الموعود، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله: {لو يعلمُ الذين كفروا} أي: حين يرون ويعلمون حقيقة الحال، وهو معاينة العذاب. وجواب {لو}: محذوف، أي: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
{بل تأتيهم بغتة} أي: بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، {فتَبهتُهُم}: فتُحيِّرهم أو تغلبهم، {فلا يستطيعون ردَّها}؛ فلا يقدرون على دفعها عنهم، أي: النار أو الساعة، {ولا هم يُنظرون}: يُمهلون؛ ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم، فقال: {ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاقَ}: نزل أو أحاط أو حلّ {بالذين سخروا منهم} أي: من أولئك الرّسل- عليهم السلام- جزاء {ما كانوا به يستهزئون}، وهو العذاب الدائم. نسأل الله العافية.
الإشارة: كل من خرق عوائد نفسه، وخرج عن عوائد الناس، أو أمر بالخروج عن العوائد، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا، سنة الله التي قد خلت من قبل، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية؛ من علم لدني، أو هداية خلق على يده، استعجلوه بإظهار الكرامة، كما هو شأن الإنسان، خُلق من عَجَل، فيقول: سأوريكم آياتي، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص، حين ترهقهم الحسرة، وتُحيط بهم الندامة، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاؤوا، وجوههم كالشموس الضاحية، لبادروا إلى الانقياد لهم، وتقبيل التراب تحت أقدامهم، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون.
ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد: ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق، فأُوذوا، وضُربوا، وأُخرجوا من بلادهم، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون، إما في الدنيا أو في الآخرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8